سيرة سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه

شارك:

سيرة سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا أما بعد:
اصطفى الله لهذه الأمة خير الرسل، واختار - سبحانه - لصحبة نبيه خير رجال في أمته لا كان ولا يكون مثلهم، غفر الله ذنبهم ورفع مكانتهم ورضي عنهم؛ بإيمانهم وإخلاصهم وصحبتهم وصدق نصرتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، قال - عز وجل -: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا [التوبة: ١٠٠].
ومما يزيد في الإيمان معرفة سير من اتصف بالصحبة وبادر إلى التصديق وآزر النبي - صلى الله عليه وسلم - ونصره، قال الإمام أحمد - رحمه الله -: "ومن السنة: ذكر محاسن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم أجمعين".
والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، ومحبتهم من أصول الدين، قال الطحاوي رحمه الله : "ونحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم".
وأفضل أولئك الجيل الفذ: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - أرسخهم إيمانا وأغزرهم علما، وأكثرهم ملازمة للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
ثم عمر الفاروق - رضي الله عنه - يليه في الفضل والخلافة كان حصنا حصينا للإسلام في قوة سيرته وكمال عدله، وما لقيه الشيطان قط سالكا فجاً إلا وسلك فجاً غير فجه.
وثالثهم عظيم اليد كريم النفس: أبو عبد الله عثمان بن عفان بن أبي العاص، ذو النورين أمير المؤمنين، وثالث الخلفاء الراشدين، وصاحب الهجرتين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، ورفيق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها قال عليه الصلاة والسلام : «إنه ليس من نبي إلا ومعه من أصحابه رفيق مكن أمته معه في الجنة، وإن عثمان بن عفان هذا رفيقي معي في الجنة»؛ رواه أحمد.
يجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جده الثالث، وهو حفيد عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - البيضاء بنت عبد المطلب، لم يتزوج رجل من الأولين والآخرين ابنتي نبي غيره.
أسلم قديما على يدي أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فكان رابع أربعة في الإسلام، وبايع عنه - صلى الله عليه وسلم - بيده في بيعة الرضوان وقال: «هذه يدي وهذه يد عثمان» رواه أحمد.
أطول الخلفاء الراشدين خلافة، مكث أميرا للمؤمنين اثني عشر عاما، كثير العبادة خاشع لله، لما نزل قوله تعالى: أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما [الزمر: ٩] قال عمر رضي الله عنه : "هو عثمان".
مطيع للنبي - صلى الله عليه وسلم - مقتف أثره، وفي له ولصاحبيه أبي بكر وعمر قال رضي الله عنه : "صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبايعته، فوالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله - عز وجل -، ثم أبو بكر مثله، ثم عمر مثله" رواه البخاري.
قال عبد الرحمن بن سمرة : "توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنه راض".
وجل من ربه، يتذكر آخرته، كثير الزيارة للمقابر، إذا وقف على القبر يبكي حتى تبل لحيته، ثابت بيقينه قدوة لغيره، أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء به عند حلول الفتن، ووصفه بالأمين، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إنكم تلقون بعدي فتنة واختلافا»، فقال له قائل من الناس: فمن لنا يا رسول الله ؟ قال: «عليكم بالأمين وأصحابه» - وهو يشير إلى عثمان بذلك -؛ رواه أحمد.
ومن تعرف على الله في الرخاء عرفه في الشدة وعصمه من الفتن، ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الفتن ذات يوم، فقال : «هذا على الهدى» - وأشار إلى عثمان - رواه الترمذي.
سليم الصدر لا يحمل حسدا أو حقدا على أحد، قال علي - رضي الله عنه -: "إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله فيهم : ونزعنا ما في صدورهم من غل [الحجر: ٤٧] ".
عفيف حافظ لدينه، يقول: "والله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام".
دمث الأخلاق، وهبه الله علما، فكان الصحابة يرجعون إليه، قال ابن سيرين: "كانوا يرون أعلمهم بالمناسك عثمان".
ومنحه الله إيمانا راسخا وعقلا راجحا، بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - يفاوض قريشا في الحديبية، قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: "لو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه"؛ واه البخاري.
قال الشعبي - رحمه الله -: "كان عثمان في قريش محببا يوصون إليه ويعظمونه".
وجعله عمر أحد أصحاب الشورى الستة من بعده، فكان خيرهم فاختاروه خليفة للمؤمنين ولم يعدلوا به أحدا، قال ابن مسعود - رضي الله عنه - حين بايعوه بالخلافة: "بايعنا خيرنا ولم نأل".
قال الإمام أحمد - رحمه الله -: "لم يجتمعوا على بيعة أحد ما اجتمعوا على بيعة عثمان".
والإنفاق في مرضاة الله من علامات صدق الإيمان ومحبة المؤمنين والتوكل على الله، ولعثمان - رضي الله عنه - اليد الطولى في البذل والعطاء، نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - في وجوه القوم يوم جيش العسرة والمسلمون يومئذ في شدة وفاقة، قال: «من يجهز هؤلاء غفر الله له»، قال عثمان: "فجهزتهم حتى ما يفقدون خطاما ولا عقالا"؛ رواه النسائي.
واشترى بيتا لتوسعة مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في عهده - عليه الصلاة والسلام - لما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من يوسع لنا بهذا البيت في المسجد ببيت في الجنة»؛ رواه أحمد.
وأعتق من المماليك ما لا يحصى، كان يقول: "ما أتت علي جمعة إلا وأنا أعتق فيها رقبة منذ أسلمت"، وقال لمواليه يوم حصاره: "من أغمد سيفه فهو حر".
والحياء خلق رفيع يجمع المروءات، وعثمان - رضي الله عنه - كان حييا حتى مع نفسه، يكون في بيته وحده والباب مغلق عليه فما يخلع عنه ثوبه ليفيض الماء عليه، ويمنعه الحياء أن يقيم صلبه وهو يغتسل، وليس في هذه الأمة من يدانيه في حيائه؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «أشد أمتي حياء: عثمان»؛ رواه الترمذي.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستحي منه، قعد - عليه الصلاة والسلام - ذات يوم في مكان فيه ماء قد انكشف ثوبه عن ركبتيه، فلما دخل عثمان غطاها؛ متفق عليه.
والملائكة تستحي منه، كان - عليه الصلاة والسلام - مضطجعا على فراشه، فلما دخل عثمان جلس وقال: «ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟!»؛ رواه مسلم.
والقرآن كلام رب العالمين، وصفه الله بالبركة والكرم والهدى، من قرب منه نالته البركة وعلت عند الله درجته، وكان - رضي الله عنه - محبا لكلام الله، قال الحسن: "ما مات عثمان حتى خلق مصحفه من كثرة ما يديم النظر فيه"، وقرأ القرآن كاملا مرارا في ركعة من العشاء إلى الفجر، وكان يقول: "لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا".
ومن حسناته العظيمة: جمع الناس على قراءة عظيمة، وكتبه المصحف على العرضة الأخيرة التي دارس فيها جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر حياته، فأمر زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أن يكتب المصحف كاملا بخط يده ويفرقه في الأمصار، وسمي نوع خط المصحف باسمه فقيل: الرسم العثماني؛ نسبة إلى أمره وزمانه وإمارته، نفعه القرآن ونفع الناس به، ولا فلاح لهذه الأمة إلا بالقرآن والعمل به.
قال ابن كثير - رحمه الله -: "وفي عصر عثمان بن عفان امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن".
ولتعلقه بكتاب الله كانت خاتمته عليه، فقتل والمصحف في حجره وسال الدم على مصحفه، ومع عبادته وخشيته لله كان خليفة راشدا محنكا، فتح الله على يديه كثيرا من الأقاليم والأمصار، واتسعت رقعة المسلمين، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها»؛ رواه مسلم.
قال في "البداية والنهاية": "وهذا كله تحقق وقوعه وتأكد وتوطن في زمان عثمان".
وكان الناس في خلافته في عيش رغيد وأمن وطيد، وفي ألفة واتفاق، وصف الحسن حالهم بقوله: "الأعطيات في خلافته جارية، والأرزاق دارة، والعدو متقى، وذات البين حسن، والخير كثير، وما مؤمن يخاف مؤمنا، من لقيه فهو أخوه من كان".
ونهج الصحابة - رضي الله عنه -: سلامة قلوبهم لبعضهم، ومحبتهم لبعضهم، وتوقير أحدهم الآخر، وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يجلونه في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد مماته، وكان مفضلا عندهم، قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: "كنا نعد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي وأصحابه متوافرون: أبو بكر، وعمر، وعثمان"؛ رواه أحمد.
وقال علي - رضي الله عنه - بعد وفاة أبي بكر وعمر: "كان عثمان خيرنا وأحسننا طهورا".
وقالت عائشة - رضي الله عنها -: "إنه لأوصلهم للرحم وأتقاهم للرب".
وكان يحب صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكنى نفسه باسم أبي كر عبد الله، ومن أبنائه من اسمه عمر، ومن بناته من سماها: عائشة.
ولما عم الرخاء ورسخ الأمن وانتشر الإسلام في الأرض في خلافته استعجل مرضى القلوب موته، واستطالوا حياته، فقتلوه وعمره اثنان وثمانون عاما وهو صائم والمصحف في حجره وهو يتلو كتاب الله، وكان مقتله أول الفتن في هذه الأمة، قال حذيفة - رضي الله عنه -: "أول الفتن قتل عثمان، وآخر الفتن الدجال".
وحزن الصحابة لمقتله، قال علي - رضي الله عنه - يوم مقتل عثمان: "أنكرت نفسي"، ولما بلغ سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - خبر قتله استغفر له وترحم له ودعا على من قتله بقوله: "اللهم أندمهم ثم خذهم"، وكان سعد مجاب الدعوة. وأقسم بعض السلف أنه ما مات أحد من قتلة عثمان إلا مقتولا.
فواجب محبة صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - والذب عنهم ولزوم طريقتهم، فقد حفظوا دين الله وشريعته، وكانوا أكمل الناس حبا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيما له وتأسيا به.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا [الأحزاب: ٢٣].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



ليست هناك تعليقات

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.